قام وفد أمني تركي، الأسبوع الماضي، بزيارة غير معلنة إلى غرب ليبيا، تضمنت العاصمة الليبية طرابلس ومدينة مصراتة، حيث التقى هذا الوفد رئيس أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، محمد الحديد، وآمر المنطقة العسكرية الغربية، صلاح النمروش، وهي الزيارة التي جاءت عقب الإعلان عن تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والتي كان من المقرر إجراؤها في ديسمبر 2021.
دوافع الزيارة:
هناك عدة أسباب ربما تفسر هذه الزيارة المفاجئة للوفد التركي إلى ليبيا، خاصةً في ظل التطورات الراهنة التي يشهدها الملف الليبي، ويمكن عرض أبرز هذه الدوافع على النحو التالي:
1- تنسيق خروج المرتزقة: جاءت زيارة الوفد التركي إلى غرب ليبيا لإبلاغ حلفاء أنقرة هناك بأن ثمة دفعة جديدة من المرتزقة السوريين التابعين لتركيا سيتم نقلهم إلى خارج ليبيا، وهي الخطوة التي جاءت بناء على التوافقات الأخيرة مع الأمم المتحدة، والالتزام بمبدأ المعاملة بالمثل.
وفي هذا السياق، أشار موقع "فلايت رادار"، في 5 يناير الجاري، إلى أن طائرة شحن عسكرية تركية قد تم رصدها قادمة من قاعدة "مطرد" بأنقرة نحو مدينة مصراتة، وذلك بعد ساعات قليلة من إعلان وزارة الخارجية الفرنسية مغادرة 300 من المرتزقة الأجانب من شرق ليبيا، في بادرة إيجابية يتوقع أن يعقبها مزيد من الانسحاب لحين الوصول إلى مرحلة الانسحاب الكامل والمرتزقة الأجانب من ليبيا.
ولذا، يستهدف الوفد التركي التنسيق مع حلفاء أنقرة في غرب ليبيا بشأن الترتيبات الأمنية هناك في ظل المعطيات الجديدة، خاصةً في ظل إشارة بعض التقديرات إلى وجود تحركات لخلايا نائمة تابعة للتنظيم "داعش" الإرهابي في المنطقة، وهو ما يفسر الاجتماع الثلاثي الذي عقده الوفد التركي مع مسؤولين من غرب ليبيا، بالإضافة إلى وفد أمني إيطالي، لتعزيز التنسيق الأمني واللوجستي.
2- الاطلاع على تحركات ميليشيات غرب ليبيا: ارتبطت زيارة الوفد التركي إلى غرب ليبيا بتصاعد التورط في العاصمة طرابلس بين الميليشيات المسلحة، بعدما شهدت الأسابيع الأخيرة وصول وحدات عسكرية إلى العاصمة طرابلس قادمة من مصراتة لضبط تحركات بعض الميليشيات في العاصمة، وهو ما أثار قلق أنقرة بشأن احتمالات حدوث مواجهات مسلحة بين الميليشيات المختلفة في غرب ليبيا.
وتخشى أنقرة أن يهدد هذا التطور مصالح تركيا هناك، خاصة بعدما عمد المجلس الرئاسي الليبي إلى إقالة آمر منطقة طربلس العسكرية، اللواء عبد الباسط مروان، وتعيين اللواء عبد القادر منصور سعد خليفة بدلاً منه، فضلاً عن قيام المجلس الرئاسي بحشد ميليشيات من عدة مدن بغرب ليبيا إلى العاصمة طربلس، مع وجود تقديرات رجحت أن المجلس سيسعى لإجراء تعديلات على الهيكل الحالي لميليشيات غرب ليبيا.
3- بحث ملف توحيد المؤسسة العسكرية: جاءت الزيارة التي قام بها الوفد الأمني التركي إلى غرب ليبيا قبيل الاجتماع الذي عقده رئيس أركان الجيش الوطني الليبي، عبد الرزاق الناظوري، مع رئيس أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، محمد الحديد، في 9 يناير الجاري، لبحث ملف توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا، وهو الاجتماع الثاني الذي يعقده الطرفان خلال أقل من شهر، في مؤشر مهم بشأن وجود ضغوطات دولية تدفع نحو أهمية إحداث تقدم في هذا الملف، باعتباره محدداً رئيسياً في ضمان انجاز عملية الانتخابات، وبالتالي تأتي زيارة الوفد الأمني قبل هذا الاجتماع من أجل التنسيق مع غرب ليبيا بشأن الترتيبات المتعلقة بهذه القضية.
4- إعادة هيكلة الطيران المدني الليبي: أعلنت المديرية العامة للطيران المدني في تركيا، في 8 يناير الجاري، أنها ستشرع خلال الفترة المقبلة في إعادة هيكلة مصلحة الطيران المدني الليبية، فضلاً عن التوسع في التدريبات التي سبق أن قدمتها أنقرة لموظفي المصلحة، والمتعلقة بالمطارات وأمن الطيران ومراقبة المنحدرات، مع التركيز خلال هذا العام على التقنيات خاصة الأمن.
كما أشارت مديرية الطيران التركية إلى مذكرة التفاهم التي كان قد تم توقيعها في اسطنبول في نوفمبر الماضي، والتي تنطوي على التعاون في مجالات البنية التحتية التقنية وتعزيز التدريب، فضلاً عن تنفيذ خطط تطوير الطيران المدني في ليبيا.
ويعكس ما سبق تنامي الانخراط التركي في مجالات البنية التحتية الليبية، بما في ذلك المتعلقة بالطيران المدني، الأمر الذي يعزز حرص تركيا على تعزيز دورها الاقتصادي في ليبيا، خاصة في حالة خروج قواتها والمرتزقة السوريين المواليين لها مستقبلاً من هناك.
دلالات مهمة:
في إطار المعطيات السابقة، تعكس زيارة الوفد الأمني التركي إلى طرابلس ومصراتة جملة من الدلالات المهمة، يمكن عرضها من خلال العناصر التالية:
1- توسيع شبكة تحالفات تركيا: ثمة تحركات تركية مكثفة خلال الفترة الأخيرة من أجل تعزيز انخراطها الأمني والاقتصادي داخل هياكل المؤسسات الليبية، وتأتي زيارة الوفد الأمني التركي إلى غرب ليبيا في إطار هذه التحركات، بل أن الجديد في المساعي التركية الحالية أنها لم تعد مقتصرة على منطقة غرب ليبيا فقط، بل أنها توسعت نحو منطقة الشرق أيضاً، وهو الأمر الذي بدأت مؤشراته مع الزيارة التي قام بها وفد من البرلمان الليبي إلى أنقرة منتصف ديسمبر الماضي، والتي فتحت الباب أمام عودة الشركات التركية إلى إقليم الشرق، خاصةً مع الحديث عن مناقشات تتعلق بعودة شركة الخطوط الجوية التركية إلى ليبيا، فضلاً عن إعادة فتح القنصلية التركية في بنغازي.
وفي هذا السياق، جاءت الدعوة التي التي قدمها النائب الأول لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، حسين القطراني، المحسوب على شرق ليبيا، للسفير التركي في ليبيا، كنعان يلمز، إلى زيارة شرق ليبيا، وذلك خلال الاجتماع الذي عقده الطرفان في 10 يناير الجاري، حيث أشار القطراني إلى أنه بحث مع السفير التركي ملف إعادة تفعيل التمثيل القنصلي في بنغازي، والتي كان قد تم إغلاق قنصلية أنقرة بها منذ عام 2014، فضلاً عن بحث ملف المساهمة التركية في إعادة الإعمار في ليبيا.
من ناحية أخرى، رجحت بعض التقديرات وجود مساعي تركية لتعزيز مستوى حضورها في الملف الليبي عبر تعيين مبعوث خاص لها إلى ليبيا، يتضمن صلاحيات أوسع من السفير التركي في طرابلس. وعلى الرغم من إشارة هذه التقديرات إلى وجود تباين حتى الآن بشأن شخصية هذا المبعوث التركي، بيد أن هذه التقديرات أشارت إلى أن سفير أنقرة الحالي في طرابلس، كنعان يلمز، مرشح بقوة لهذا المنصب، وربما هذا يفسر بشكل كبير اللقاءات المكثفة التي عقدها يلمز خلال الأيام الأخيرة مع عدد من الأطراف الليبية، منهم رئيس ما يسمى بمجلس الدولة، خالد المشري، ونائب رئيس الحكومة الليبي، حسين القطراني.
2- قلق تركي على مستقبل الدبيبة: تعكس زيارة الوفد الأمني التركي إلى ليبيا عن وجود تخوفات تركية من التحركات التي يقوم بها أطراف ليبية تستهدف استبعاد رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، من المشهد. فقد عقد لقاء غير معلن بين رئيس البرلمان الليبي، عقيلة صالح، ورئيس مجلس الدولة، خالد المشري، في المغرب، وهو اللقاء الذي انضم إليه في وقت لاحق بلقاسم حفتر، نجل خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، وأشارت تقارير إلى أن هدف هذا الاجتماع الثلاثي استهدف بالأساس التخطيط لإزاحة الدبيبة من رئاسة الحكومة.
ويبدو أن هذه الخطوة أثارت قلق أنقرة، خاصة أنها تسعى لصمان استمرار حليفها، عبد الحميد الدبيبة. ولعل هذا ما قد يفسر اللقاء الذي جمع السفير التركي في ليبيا مع رئيس مجلس الدولة، خالد المشري، فضلاً عن لقاء الأول بنائب رئيس حكومة الوحدة الوطنية، حسين القطراني، الذي عاد مؤخراً لمباشرة مهامه من طرابلس بعد فترة من التوترات في علاقته مع الدبيبة، في إطار مساعي أنقرة للوساطة بين الطرفين لحلحلة أي خلافات ربما تؤثر على مستقبل حكومة الدبيبة.
من ناحية أخرى، عكست زيارة الوفد الأمني التركي إلى ليبيا عن قلق أنقرة من التحركات الأخيرة التي أفرزت عن بوادر تحالفات داخلية جديدة، لعل أبرزها التوافقات الأخيرة بين المشير خليفة حفتر ووزير الداخلية السابق، فتحي باشاغا، وهو ما قد يفسر اجتماع الوفد التركي بباشاغا في مصراته.
3- إمكانية حلحلة الأزمة الليبية: تعكس المتغيرات الراهنة في الملف الليبي أحد أبعاد التطورات الراهنة في نمط العلاقات القائمة بين الفواعل الإقليمية المختلفة، والتي بدأت تشهد تراجعاً محلوظاً في حدة التوترات السابقة، خاصةً فيما يتعلق بنسق العلاقات التركية مع الدول العربية، وهو ما انعكس بشكل واضح على مسار الأزمة الليبية، من خلال مرونة أكبر في شكل العلاقات بين الأطراف الليبية المختلفة بالقوى الإقليمية، وهو مؤشر قد يعزز حالة التهدأة الحالية في ليبيا، مع الدفع أكثر نحو إنجاز مزيد من التقدم فيما يتعلق بالمسار الاقتصادي والعسكري.
وفي الختام، ثمة مساع تركية باتت واضحة لتعزيز تغلغلها في الداخل الليبي، مع توسيع شبكة علاقتها بمختلف الأطراف الداخلية، بما في ذلك شرق ليبيا، مع العمل على ضمان اسمرارية نفوذها في غرب ليبيا، لذا عمدت أنقرة من خلال الوفد الأمني الأخير الذي زار طرابلس ومصراته لتأكيد نفوذها هناك، واستيعاب أي تحركات ليبية للإطاحة برئيس الوزراء عبدالحميد الدبيبة.